الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
ومنها التحجير على الأجراء والمعمرين المستعملين في الأبنية والعمائر مثل البنائين والنجارين والنشارين والخراطين وإلزامهم في عمائر الدولة بمصر وغيرها بالإجارة والتسخير واختفى الكثير منهم وأبطل صناعته وأغلق من له حانوت حانوته فيطلبه كبير حرفته الملزم بإحضاره عند معمار باشا فإما أنه يلازم الشغل أو يفتدي نفسه أو يقين بدلًا عنه ويدفع له الأجرة من عنده فترك الكثير صناعته وأغلق حانوته وتكسب بحرفة أخرى فتعطل بذلك احتياجات الناس في التعمير والبناء بحيث أن من أراد أن يبني له كانونا أو مزودًا لدابته تحير في أمره وأقام أيامًا في تحصيل البناء وما يحتاجه من الطين والجبر والقصرمل وكان الباشا اشترى ألف حمار وعملوا لها مزابل وأعدوا لنقل أتربة عمائره وشيل القصرمل من مستوقدات الحمامات بالمدينة وبولاق ونودي في المدينة بمنع الناس كافة عن أخذ شيء من القصرمل فكان الذي تلزمه الضرورة لشيء منه إن كان قليلًا أخذه كالسرقة في الليل من المستوقد بأغلى ثمن وإن كان كثيرًا لا يأخذه إلا بفرمان بالإذن من كتخدا بك بعد أن كان شيئًا مبتذلًا وليس له قيمة ينقلونه إذا كثر في المستوقدات إلى الكيمان بالأجرة وإن احتاجه الناس في أبنيتهم إما نقلوه على حميرهم أو نقله خدمة المشتوفد بأجرتهم كل فردين بنصف وأقل وأزيد ونحو ذلك كما إذا أضاع إنسان مفتاح خشب لا يجد نجارًا يصنع له مفتاحًا آخر إلا خفية ويطلب ثمنه خمسة عشر نصف فضة وكان من عادة المفتاح نصف فضة إن كان كبيرًا أو نصف إن كان صغيرًا. ومنها أن الذي التزم بعمل البارود قرر على نفسه مائتي كيس واحتكر جميع لوازمه مثل الفحم وحطب الترمس والذرة والكبريت فقرر على كل صنف من ذلك قدرًا من الأكياس وأبطل الذين كانوا يعملون في السباخ بالكيمان ويستخرجون منه ملح البارود ثم يؤخذ منهم عبيطًا إلى المعمل فيكررونه حتى يخرج ملحًا أبيض يصلح للعمل وهي صناعة قذرة ممتهنة فأبطلهم منها وبنى أحواضًا بدلًا عن الصناديق وجعلها متسعة وطلاها بالخافقي وعمل ساقية وأجرى الماء منها إلى تلك الأحواض وأوقف العمال لذلك بالأجرة يعملون في السباخ المذكور. ومنها شحة الحطب الرومي في هذه السنة وإذا ورد منه شيء حجزه الباشا لاحتياجاته فلا يرى الناس منه شيئًا فكان الحطابة يبيعون بدله خشب الأشجار المقطوعة من القطر المصري وأفضلها السنط فيباع منه الحملة بثلثمائة نصف فضة وأجرة حملها عشرة وتكسيرها عشرة وعز وجود الفحم أيضًا حتى بيعت الأقة بعشرين نصفًا وذلك لانقطاع الجالب إلا ما يأتي قليلًا من ناحية الصعيد مع العسكر يتسببون فيه ويبيعونه بأغلى ثمن كل حصيرة باثني عشر قرشًا وهي دون القنطار وكانت تباع في السابق بستين نصفًا وهي قرش ونصف غير ذلك أمور وأحداثات وابتداعات لا يمكن استقصاؤها ولم يصل إلينا خبرها إذ لا يصل إلينا إلا ما تعلقت به اللوازم والاحتياجات الكلية وقد يستدل بالبعض على الكل وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر فمات الشيخ الإمام العلامة والتحرير الفهامة الفقيه الأصولي النحوي شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ولد ببلدة تسمى الطويلة بشرقية بلبيس بالقرب من القرين في حدود الخمسين بعد المائة وتربى القرين فلما ترعرع وحفظ القرآن قدم إلى الجامع الأزهر وسمع الكثير من الشهايين الملوي والجوهري والحنفي وأخيه يوسف والدومنهوري والبليدي وعطية الأجهوري ومحمد الفارسي وعلي المنسفيسي الشهير بالصعيدي وعمر الطحلاوي وسمع الموطا فقط على علي بن العربي الشهير بالسقاط وبآخره تلقن بالسلوك والطريقة على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولازمه وحضر معنا في أذكاره وجمعياته ودرس الدروس بالجامع الأزهر وبمدرسة السنانية بالصنادقية وبرواق الجبرت والطيبرسية وأفتى في مذهبه متميز في الإلقاء والتحرير وله مؤلفات دالة على سعة فضله من ذلك حاشيته على التحرير وشرح نظم يحي العمريطي وشرح العقائد المشرقية والمتن له أيضًا وشرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف مشهور في بلاد داغستان وشرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد ومختصر الشمائل وشرحه له ورسالة في لا إله إلا الله ورسالة في مسألة أصولية في جمع الجوامع وشرح الحكم والوصايا الكردية في التصوف وشرح ورد سحر للبكري ومختصر المغني في النحو وغير ذلك ولما أراد السلوك في طريق الخلوتية ولقنه الشيخ الحنفي الاسم الأول حصل له وله واختلال في عقله ومكث بالمارستان أيامًا ثم شفي ولازم الأقراء والإفادة ثم تلقن من شيخنا الشيخ محمود الكردي وقطع الأسماء عليه وألبسه التاج وواظب على مجالسته وكان في قلة من خشونة العيش وضيق المعيشة فلا يطبخ في داره إلا نادرًا وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام أو يدعونه ليأكل معهم ولما عرفه الناس واشتهر ذكره فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات فراج حاله وتجمل بالملابس وكبر تاجه ولما توفي الشيخ الكردي كان المترجم من جملة خلفائه وضم إليه أشخاصًا من الطلبة والمجاورين الذين يحضرون في درسه يأتون إليه كل ليلة عشاء يذكرون معه ويعمل لهم في بعض الأحيان ثريدًا ويذهب بهم إلى بعض البيوت في مياتم الموتى وليالي السبح والجمع المعتادة ومعهم منشدون ومولهون ومن يقرأ الأعشار عند ختم المجلس فيأكلون العشاء ويسهرون حصة من الليل في الذكر والإنشاد والتوله وينادون في إنشادهم بقولهم يا بكري مدد يا حنفي مدد يا شرقاوي مدد ثم يأتون إليهم بالطاري وهو الطعام بعد انقضاء المجلس ثم يعطونهم أيضًا دراهم ثم اشترى له دار بحارة كتامة المسماة بالعينية وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير وترك الذهاب إلى البيوت إلا في النادر واستمر على حالته حتى مات الشيخ أحمد العروسي فتولى بعده مشيخة الجامع الأزهر فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يضرب بعظمتها المثل وكانت تعارضت فيه وفي الشيخ مصطفى الصاوي ثم حصل الاتفاق على المترجم وأن الشيخ الصاوي يستمر في وظيفة التدريس بالمدرسة الصلاحية المجاورة لضريح الإمام الشافعي بعد صلاة العصر وهي من وظائف مشيخة الجامع ولما تولاها الشيخ العروسي تعدى على الوظيفة المذكورة الشيخ محمد المصيلحي الضرير وكان يرى في نفسه أنه أحق بالمشيخة من العروسي فلم ينازعه فيها حسمًا للشر فلما مات المصيلحي تنزه عنها العروسي وأجلس فيها الصاوي وحضر درسه في أول ابتدائه لكونه من خواص تلامذته فلما مات العروسي وتولى المترجم المشيخة اتفقوا على بقاء الصاوي في الوظيفة ومضى على ذلك أشهر ثم أن المجتمعين على الشرقاوي وسوسوا له وحضروه على أخذ الوظيفة وأن مشيخته لا تتم إلا بها وكان مطواعًا فكلم بذلك الشيخ محمد ابن الجوهري وأيوب بك الدفتردار ووافقاه على ذلك واغتر بهما وذهب بجماعته ومن انضم إليهم وهم كثيرون وقرأ بها درسًا فلم يحتمل الصاوي ذلك وتشاور مع ذوي الرأي من رفقائه كالشيخ بدوي الهيتمي وأضرا به فبيتوا أمرهم وذهب الشيخ مصطفى إلى رضوان كتخدا إبراهيم بك الكبير وله به صداقة ومعاملة ومقارضة فسامحه في مبلغ كان عليه له فعند ذلك اهتم رضوان كتخدا المذكور وحضر عند الشرقاوي وتكلم معه وأفحمه ثم اجتمعوا في ثاني يوم ببيت الشرقاوي وحضر الصاوي وعزوته وباقي الجماعة فقال الشرقاوي اشهدوا يا جماعة أن هذه الوظيفة استحقاقي وأنا نزلت عنها إلى الشيخ مصطفى الصاوي فقال له الصاوي ارجع أما الآن فلا ولا جميلة لك الآن في ذلك وباكته بكلام كثير وبإنفاذه لرأي من حوله وغير ذلك وانفض المجلس على منعه من الوظيفة واستمرار الصاوي فيها إلى أن مات فعادت إلى المترجم عند ذلك من غير منازع فواظب الإقراء فيها مدة وطالب سدنة الضريح بمعلومها فماطلوه فتشاجر معهم وسبهم فشكوه للمعاضدين لهم وهم أهل المكايد من الفقهاء وغيرهم وتعصبوا عليه وأنهوا إلى الباشا وضموا إلى ذلك أشياء حتى أغروا عليه صدره واتفقوا على عزله من المشيخة ثم انحط الأمر على أن يلزم داره ولا يخرج منها ولا يتداخل في شيء من الأشياء فكان ذلك أيامًا ثم عفا عنه الباشا بشفاعة القاضي فركب وقابله ولكن لم يعد إلى القراءة في الوظيفة بل استناب فيها بعض الفقهاء وهو الشيخ محمد الشبراويني ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ورتبوا ديوانًا لإجراء الأحكام بين المسلمين جعلوا المترجم رئيس الديوان وانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم المرتب له عن ذلك وقضايا وشفاعات لبعض الأجناد المصرية وجعالات على ذلك واستيلاء على تركات ودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها واشترى دار ابن بيرة بظاهر الأزهر وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين وزوجته بنت الشيخ علي الزغفراني هي التي تدبر أمره وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها وهي أم سيدي علي الموجود الآن وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغًا في كل شهر له صورة وعمل مهمًا لزواج ابنه المذكور في أيام محمد باشا خسرو سنة سبع عشرة ومائتين وألف ودعا إليه الباشا وأعيان الوقت فاجتمع إليه شيء كثير من الهدايا ولما حضر إليه الباشا أنعم على ابنه بأربعة أكياس عنها ثمانون ألف درهم وذلك خلاف البقاشيش واتفق للمترجم في أيام الأمراء المصرية أن طائفة المجاورين بالأزهر من الشرقاويين يقطنون بمدرسة الطيبرسية بباب الأزهر وعمل لهم المترجم خزائن برواق معمر فوقع بينهم وبين المجاورين بها مشاجرة فضربوا نقيب الرواق فتعصب لهم الشيخ إبراهيم السجيني شيخ الرواق على الشرقاويين ومنعوهم من الطيبرسية وخزائنها وقهروا المترجم وطائفته فتوسط بامرأة عمياء فقيهة تحضر عنده في درسه إلى عديلة هانم ابنة إبراهيم بك فكلمت زوجها إبراهيم بك المعروف بالوالي بأن يبني له مكانًا خاصًا بطائفته فأجابه إلى ذلك وأخذ سكنًا أمام الجامع المجاور لمدرسة الجوهرية من غير ثمن وأضاف إليه قطعة أخرى وأنشأ ذلك رواقًا خاصًا بهم ونقل إليه الأحجار والعامود والرخام الذي بوسطه من جامع الملك الظاهر بيبرس خارج الحسينية وهو تحت نظر الشيخ إبراهيم السجيني ليكون ذلك نكاية له نظير تعصبه عليه وعمل به قوائم وخزائن واشترى له غلال من جريات السون وأضافها إلى أخباز الجامع وأدخلها ففي دفتره يستلمها خباز الجامع ويصرفها خبز قرصة لأهل ذلك الرواق في كل يوم ووزعها على الأنفار الذين اختارهم من أهل بلاده ومما اتفق للمترجم أن بخارج باب البرقية خانكاه أنشأتها خوند طغاي الناصرية بالصحراء على يمنة السالك إلى وهدة الجبانة المعروفة الآن بالبستان وكان الناظر عليها شخص من شهود المحكمة يقال له ابن الشاهيني فلما مات تقرر في نظيرها المترجم واستولى على جهات إيرادها فلما ولج الفرنساوية أراضي مصر وأحدثوا القلاع فوق التلول والأماكن المستعلية حوالي المدينة هدموا منارة هذه الخانكاه وبعض الحوائط الشمالية وتركوها على ذلك فلما ارتحلوا عن أرض مصر بقيت على وضعها في التخرب وكانت ساقيتها تجاه بابها في علوة يصعد إليها بمزلقان ويجري الماء منها إلى الخانكاه على حائط مبني وبه قنطرة يمر من تحتها المارون وتحت الساقية حوض لسقي الدواب وقد أدركنا ذلك وشاهدنا دوران الثور في الساقية ثم أن المترجم أبطل تلك الساقية وبنى مكانها زاوية وعمل لنفسه بها مدفنًا وعقد عليه قبة وجعل تحتها مقصورة بداخلها تابوت عال مربع وعلى أركانه عساكر فضة وبنى بجانبها قصرًا ملاصقًا لها يحتوي على أروقة ومساكن ومطبخ وكلار وذهبت الساقية في ضمن ذلك وجعلها بئر وعليه خرزة يملؤن منها بالدلو ونسيت تلك الساقية وانطمست معالمها وكأنها لم تكن وقد ذكر هذه الخانكاه العلامة المقريزي في خططه عند ذكر الخوانك لا بأس بإيراد ما نصه للمناسبة فقال خانكاه أم أنوك هذه الخانكا خارج باب البرقية بالصحراء أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي فجاءت من أجل المباني وجعلت بها صوفية وقراء ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة وقررت لكل جارية من جواريها مرتبًا يقوم بها ثم ترجمها بقوله طغاي الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وأم ابنه الأمير أنوك كانت من جملة أمائه فأعتقها وتزوجها ويقال أنها أخت الأمير آفبغا عبد الواحد وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال من السعادة ما لم يره غيرها من نساء ملوك الترك بمصر وتنعمت في ملاذ ما وصل سواها لمثلها ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها وصارت خوندة بعد ابنه توكاي أكبر نسائه حتى من ابنة الأمير تنكز وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحلابة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري والجبن وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن واللبن في كل يوم بطريق الحج فما عساه يكون بعد ذلك وكان القاضي كريم الدين وأمير مجلس وعدة من الأمراء يترجلون عند النزول ويسيرون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة للسلطان لا بلد أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر فلما مات السلطان الملك الناصر استمرت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خصيًا وأموال كثيرة جدًا وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قراء ووقفت على ذلك وقفا وجعلت من جملته خبزًا يفرق على الفقراء ودفنت بهذه الخانكاه وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا انتهى كلامه. يقول الحقير أني دخلت هذه الخانكاه في أواخر القرن الماضي فوجدت بها روحانية لطيفة وبها مساكن وسكان قاطنون بها وفيهم أصحاب الوظائف مثل المؤذن والوقاد والكناس والملاء ودخلت إلى مدفن الوقفة وعلى قبرها تركيبة مكن الرخام الأبيض وعند رأسها ختمة شريفة كبيرة على كرسي بخط جليل وهي مذهبة وعليها اسم الواقفة رحمها الله تعالى فلو أن الشيخ المترجم عمر هذه الخانكاه بدل هذا الذي ارتكبه من تخريبها لكان له بذلك منقبه وذكر حسن في حياته وبعد مماته وبالله التوفيق وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين من طبقات السبكي والأسنوي وأما التاخرون فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد وأظن أن ذلك آخر تأليفاته وعمل تاريخنا قبله مختصرًا في نحو أربعة كراريس عند قدوم الوزير يوسف باشا إلى مصر وخروج الفرنساوية منها وأهداه عدد فيه ملوك مصر وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين وهو في غاية البرود وغلط فيه غلطات منها أنه ذكر الأشرف شعبان ابن الأمير حسين بن الناصر محمد بن قلاوون فجعله ابن السلطان حسن ونحو ذلك ولم يزل المترجم حتى تعلل ومات في يوم الخميس ثاني شهر شوال من السنة وصلى عليه بالأزهر في جمع كثير ودفن بمدفنه الذي بناه لنفسه كما ذكر ووضعوا على تابوته المذكور عمامة كبيرة أكبر من طبيزيته التي كان يلبسها في حياته بكثير وعمومًا بشاش أخضر وعصبوها بشال كشميري أحمر ووقف شخص عند باب مقصورته وبيده مقرعة يدعو الناس لزيارته ويأخذ منهم دراهم ثم أن زوجته وابنها ومن يلوذ بهم ابتدعوا له مولدًا وعيدًا في أيام مولد العفيفي وكتبوا بذلك فرمانًا من الباشا ونادى به تابع الشرطة بأسواق المدينة على الناس بالاجتماع والحضور لذلك المولد وكتبوا أوراقًا ورسائل للأعيان وأصحاب المظاهر وغيرهم بالحضور وذبحوا ذبائح وأحضروا طباخين وفراشين مدوا أسمطة بها أنواع الأطعمة والحلاوات والمحمرات والخشافات لمن حضر من الفقهاء والمشايخ والأعيان وأرباب الأشاير والبدع ونصبو قبالة تلك القبة صواري علقوا بها قناديل وبيارق وشراريب حمرًا وصفرًا يلوحها الريح واجتمع حول ذلك من غوغاء الناس وعملوا قهاوي وبياعين الحلو والمخللات والترمس المملح والفول المقلي ودهسوا ما بتلك البقعة من قبور الأموات وأوقدوا بها النيران وصبوا عليها القاذورات مع ما يلحقهم من البول والغائط وأما ضجة الأوباش والأولاد وصراخهم وفرقعتهم بالبارود وصياحهم وضجيجهم فقد شاهدنا به ما كنا نسمعه من عفاريت الترب وضرب المثل بهم فهم أقبح منهم فإن العفاريت الحقيقية لم نر لهم أفعالًا مثل هذه. ولما مات الشيخ المترجم ومضى على موته ثلاثة أيام اجتمع المشايخ في يوم الأحد خامسه وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الباشا وذكروا له موت المترجم ويستأذنونه فيمن يجعلونه شيخًا على الأزهر فقال لهم الباشا اعملوا رأيكم واختاروا شخصًا يكون خاليًا من الأغراض وأنا أقلده ذلك فقاموا من مجلسه ونزلوا إلى بيوتهم واختلفت آراؤهم فالبعض اختار الشيخ المهدي والبعض ذكر الشيخ محمد الشنواني وأما الشيخ محمد الأمير فإنه امتنع من ذلك وكذلك ابن الشيخ العروسي والشيخ الشنواني المذكور منعزل عنهم وليس له درس بالأزهر ويقرأ دروسه بجامع الفاكهاني الذي في العقادين وبيده وظائف خدم الجامع وعند فراغه من الدروس يغير ثيابه ويكنس المسجد ويغسل القناديل ويعمرها بالزيت والفتائل حتى يكنس المراحيض فلما بلغه أنهم ذكروه تغيب ثم أن الباشا أمر القاضي وهو بهجة أفندي بأن يجمع المشايخ عنده ويتفقوا على شخص يجتمع رأيهم عليه بالشرط المذكور فأرسل إليهم القاضي وجمعهم وذلك في يوم الثلاثاء سابعه وحضر فقهاء الشافعية مثل القويسني والفضالي وكثير من المجاورين والشوام والمغاربة فسأل القاضي هل بقي أحد فقالوا لم يكن أحد غائبًا عن الحضور إلا ابن العروسي والهيثمي والشنواني فأرسلوا إليهم فحضر العروسي والهيثمي فقال وأين الشنواني فلا بد من حضوره فأرسلوا رسولًا فغاب ورجع وبيده ورقة ويقول الرسول أنه له ثلاثة أيام غائبًا عن داره وترك هذه الورقة عند أهله وقال إن طلبوني أعطوهم هذه الورقة فأخذها القاضي وقرأها جهارًا يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم لحضرة شيخ الإسلام أننا نزلنا عن المشيخة للشيخ بدوي الهيثمي إلى آخر ما قال فعندما سمع الحاضرون ذلك القول قاموا قومة وأكثرهم طائفة الشوام وقال بعضهم هو لم يثبت له مشيخة حتى أنه نزل عنها لغيره وقال كبارهم من المدرسين لا يكون شيخًا إلا من يدرس العلوم ويفيد الطلبة وزادوا في اللغط فقال القاضي ومن الذي ترضونه فقالوا نرضى الشيخ المهدي وكذلك قال البقية وقاموا وصافحوه وقرأوا الفاتحة وكتب القاضي إعلامًا إلى الباشا بما حصل وانفض الجمع وركب الشيخ المهدي إلى بيته في كبكبة وحوله وخلفه المشايخ وطوائف المجاورين وشربوا الشربات وأقبلت عليه الناس للتهنئة وانتظر جواب الإعلام بقية ذلك اليوم فلم يأت الجواب ومضى اليوم الثاني والمدبرون يدبرون شغلهم وأحضروا الشيخ الشنواني من المكان الذي كان متغيبًا فيه بمصر القديمة وتمموا شغلهم وأحضروا السيد منصور اليافاوي المنفصل عن مشيخة الشوام ليلًا ليعيدوه إلى مشيخة الشوام ويمنعوا الشيخ قاسمًا المتولي فعاله ولطائفته الذين تطاولوا في مجلس القاضي بالكلام وجمعوا بقية المشايخ آخر الليل وركبوا في الصباح إلى القلعة فقابلوا الباشا فخلع على الشيخ محمد الشنواني فروة سمور وجعله شيخًا على الأزهر وكذلك على السيد منصور اليافاوي ليكون شيخًا على رواق الشوام كما كان في السابق ثم نزلوا وركبوا وصحبتهم آغات الينكجرية بهيئة الموكب وعلى رأسه المجوزة الكبيرة وأمامه الملازمون بالبراقع والريش على رؤوسهم وما زالوا سائرين حتى دخلوا حارة خوشقدم فنزلوا بدار ابن الزليجي لأن دار ذات الشيخ الشنواني صغيرة وضيقة لا تسع ذلك الجمع والذي أنزله في ذلك المنزل السيد محمد المحروقي وقام له بجميع الاحتياجات وأرسل من الليل الطباخين والفراشين والأغنام والأرز والحطب والسمن والعسل والسكر والقهوة وأوقف عبيده وخدمه لخدمة القادمين للسلام والتهنئة ومناولة القهوة والشربات والبخور وماء الورد وازدحمت الناس عليه وأتوا أفواجًا إليه وكان ذلك يوم الثلاثاء رابع عشره ووصل الخبر إلى الشيخ المهدي ومن معه وحصل لهم كسوف وبطلت مشيخته ولما كان يوم الجمعة حضر الشيخ الجديد إلى الأزهر وصلى الجمعة وحضر باقي المشايخ وعملوا الختم للشيخ الشرقاوي وحصل ازدحام عظيم خصوصًا للتفرج على الشيخ الجديد وكأنه لم يكن طول دهره بينهم ولا يلتفتون إليه وبعد فراغ الختم أنشد المنشد قصيدة يرثي بها المتوفي من نظم الشيخ عبد الله العدوي المعروف بالقاضي وانفض الجميع. ومات
الأستاذ المكرم بقية السلف الصالحين ونتيجة الخلف المعتقد الشيخ محمد المكني أبا السعود بن الشيخ محمد جلال بن الشيخ محمد أفندي المكني بأبي المكارم بن السيد عبد المنعم بن السيد محمد المكني بأبي السرور صاحب الترجمة بن السيد القطب الملقب بأبي السرور البكري الصديقي العمري من جهة الأم تولى خلافة سجادتهم في سنة سبع عشرة ومائتين وألف عندما عزل ابن عمه السيد خليل البكري ولم تكن الخلافة في فرعهم بل كانت في أولاد الشيخ أحمد بن عبد المنعم وآخرهم السيد خليل المذكور فلما حضرت العثمانية إلى مصر واستقر في ولايتها محمد باشا خسروا سعى في السيد خليل الكارهون له وأنهوا إليه فيه ورموه بالقبائح ومنها تداخله في الفرنسيس وامتزاجه بهم وعزلوه من نقابة الأشراف وردت للسيد عمر مكرم ولم يكتفوا بذلك وذكروا أنه لا يصلح لخلافة البكرية فقال الباشا وهل موجود في أولادهم خلافة قالوا نعم وذكروا المترجم فيمن ذكروه وأنه قد طعن في السن وفقير من المال فقال الباشا الفقر لا ينفي النسب وأمر له بفرس وسرج وعباءة كعادة مركوبهم فأحضروه وألبسوه التاج والفرجية وخلع عليه الباشا فروة سمور وأنعم عليه بخمسة أكياس وأن يأخذ له فائظًا في بعض الإقطاعات ويعفى من الحلوان وسكن بدار جهة باب الخرق وراج أمره واشتهر ذكره من حينئذ وسار سيرًا حسنًا مقرونًا بالكمال جاريًا على نسق نظامهم بحسب الحال ويتحاكم لديه خلفاء الطرائق الصورية وأصحاب الأشاير البدعية كالأحمدية والرفاعية والبرهامية والقادرية فيفضل قوانينهم العادية وينتقل في أوائل شهر ربيع الأول إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق فيعمل هناك وليمة المولد النبوي على العادة وكذلك مولد المعراج في شهر رجب بزاوية الدشطوطي خارج باب العدوي ولم يزل على حالته وطريقته مع انكسار النفس إلى أن ضعفت قواه وتعلل ولازم الفراش فعند ذلك طلب الشيخ الشنواني وباقي المشايخ وعرفهم أن مرضه الذي هو به مرض الموت لأنه بلغ التسعين وزيادة وأنه عهد بالخلافة على سجادتهم لولده السيد محمد لأنه بالغ رشيد والتمس منهم بأن يركبوا معه من الغد ويطلعوا إلى القلعة ويقابلوا به الباشا فأجابوه إلى ذلك وركبوا من الغد صحبته إلى القلعة فخلع عليه الباشا فروة سمور ونزل إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق وتوفي المترجم في أواخر شهر شوال من السنة وحضروا بجنازته إلى الأزهر فصلوا عليه وذهبوا به إلى القرافة ودفن بمشهد أسلافهم رحمه الله تعالى. ومات الأجل المكرم المهذب في نفسه النادرة في أبناء جنسه محمد أفندي الودنلي الذي عرف بناظر المهمات ويعرف أيضًا بطبل أي الأعرج لأنه كان به عرج قدم إلى مصر في أيام قدوم الوزير يوسف باشا وولاه محمد باشا خسرو كشوفية أسيوط ثم رجع إلى مصر في ولاية محمد علي باشا فجعله ناظرًا على مهمات الدولة وسكن ببيت سليمان أفندي ميسوًا بعطفة أبي كلبة بناحية الدرب الأحمر فتقيد بعمل الخيام والسروج واليرقات ولوازم الحروب فضاقت عليه الدار فاشترى بيت ابن الدالي باللبودية بالقرب من قنطرة عمر شاه وهي دار واسعة عظيمة متخربة هي وما حولها من الدور والرباع والحوانيت فعمرها وسكن بها ورتب بها ورشات أرباب الأشغال والصنائع والمهمات المتعلقة بالدولة كسبك المدافع والجلل والقنابر والمكاحل والعربات وغير ذلك من الخيام والسروج ومصاريف طرائف العساكر الطبجية والعربجية والرماة وعمر ما حول تلك الدار من الرباع والحونيت والمسجد الذي بجواره ومكتبًا لإقراء الأطفال ورتب تدريسًا في المسجد المذكور بعد العصر وقرر فيه السيد أحمد الطحطاوي الحنفي ومعه عشرة من الطلبة ورتب لهم ألف عثماني تصرف لهم من الروزنامة وللأطفال وكسوتهم خلاف ذلك ويشتري في عيد الأضحى جواميس وكباشًا يذبح منها ويفرق على الفقراء والموظفين ويرسل إلى أصحابه عدة أكباش في عيد الأضحية إلى بيوتهم الكبش والكبشين على قدر مقاديرهم ويرسل في كل ليلة من ليالي رمضان عدة قصاع مملوءة بالثريد واللحم إلى الفقراء بالجامع الأزهر واتفق أن الباشا قصد تعمير المجراة والسواقي التي تنقل الماء من النيل إلى القلعة وكانت قد تهدمت وتخربت وتلاشت وبطل عملها مدة سنين فأحضروا المعمارجية فهولوا عليه أمرها وأخبروه أنها تحتاج خمسمائة كيس تنفق في عمارتها فعرض ذلك على المترجم فقال له: أنا أعمرها بمائة كيس قال كيف تقول قال بل بثمانين كيسًا والتزم بذلك ثم شرع بعمارتها حتى أتمها على ما هي عليه الآن وأهدى إليه رجال دولتهم عدة أنوار معونة له فعمر أيضًا سواقيها وأدارها وجرى فيها الماء إلى القلعة ونواحيها وانتفع بها أهل تلك الجهات ورخص الماء وكثر في تلك الأخطاط وكانوا قاسوا شدة من عدم الماء عدة سنين ومما عد من مناقبه أن القلقات المقيدين بالمراكز وأبواب المدينة كانوا يأخذون من الواردين والداخلين والخارجين والمسافرين من الفلاحين وغيرهم ومهم أشياء أو أحمال ولو حطبًا أو برسيمًا أو تبنًا أو سرجينا دراهم على كل شيء ولو امرأة فقيرة معها أو على رأسها مقطف من رجيع البهائم تبيعه في الشارع وتقتات بثمنه فيحجزونها ولا يدعونها تمر حتى تدفع لهم نصف فضة ثم يأخذون أيضًا من ذلك الشيء ويأخذون على كل حمل حمار أو بغل أو جمل نصف فضة وإذا اشترى شخص من ساحل بولاق أو مصر القديمة أردب غلة أو حملة حطب لعياله أخذ منه المتقيدون عند قنطرة الليمون فإذا خلص منهم استقبله الكائنون بالباب الحديد وهكذا سائر الطرق التي يدخل منها المارة إلى المدينة ويخرجون مثل باب النصر وباب الفتوح وباب الشعرية وباب العدوي وطرق الأزبكية وباب القرافة والبرقية وطرق مصر القديمة فسعى المترجم بأبطال ذلك وتكلم مع الباشا وعرفه تضرر الناس وخصوصًا الفقراء وهؤلاء المتقيدون لهم علائف يقبضونها من الباشا كغيرهم وهذا قدر زائد مرخص له في إبطال هذا الأمر وكتب له بيور لدي بمنع هؤلاء المذكورين عن أخذ شيء من الناس جملة كافية وقيد بكل مركز شخصًا من أتباعه لمراقبتهم وأشاع ذلك في الناس فانكفوا وامتنعوا عن أخذ شيء من عامة الناس وكانوا يجمعون من ذلك مقادير من الفضة العددية يتقاسمونها آخر النهار وذلك خلاف ما يأخذونه من الأشياء المحمولة كالجبن والزبد والخيار والقثاء وأنواع البطيخ والفاكهة والبرسيم والأحطاب والخضارات وغير ذلك ومن مناقبه أيضًا أن الجاويشية والقواسة الأتراك المختصين بخدمة الباشا كتخدا كان من عوائدهم القبيحة أنهم في كل يوم جمعة يلبسون أحسن ملابسهم وينتشرون بالمدينة ويطوفون على بيوت الأعيان وأرباب المظاهر وأصحاب المناصب ويأخذون منهم البقاشيش ويسمونها الجمعية فما هو إلا أن يصطبح أحد من ذكر ويجلس مجلسه إلا واثنان أو ثلاثة عابرون عليه من غير استئذان فيقفون قبالته وبأيديهم العصي المفضضة فيعطيهم القرشين أو الثلاثة بحسب منصبه ومقامه فإذا ذهبوا وانصرفوا حضر إليه خلافهم وهكذا ولا يرون في ذلك ثقلًا ولا رذالة بل يرون أن ذلك من اللازمات الواجبة فلا يكفي أحد المقصودين الخمسون قرشًا أو أقل أو أكثر في ذلك اليوم تذهب سبهللًا فكان منهم من ينقطع في حريمه ذلك اليوم أو يتوارى ويغيب في منزله فإذا صادفوه مرة أخرى ذاكروه فيما فاتهم في السابق فإما سامحوه وامتنوا عليه بتركها أو طالبوه بها إن لم يكن ممن يخشوه فسعى أيضًا المترجم مع الباشا على منعهم من ذلك.
|